التواصل الحضاري بين مصر القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الرومانية
مقدمة
ارتبطت مصر بجيرانها منذ فجر التاريخ، ولم تعش في عزلة عن حضارات العالم القديم، بل كانت بمثابة همزة الوصل بين تلك الحضارات، وأخذت تؤثر وتتأثر بها، وارتبطت معها بعلاقات سياسية وثقافية واقتصادية ودينية وغيرها، فكان من ثمار هذا التواصل قيام حضارات أخرى أسهمت في بناء الحضارة الإنسانية.
وقد بلغت مصر من القوة والتطور ما جعلت البلاد المجاورة تتطلع إليها للاستفادة من إنجازاتها الحضارية، فظهرت التأثيرات الإبداعية للحضارة المصرية في بلاد اليونان والرومان منذ أقدم العصور نتيجة لعدة أسباب منها :
١ - خطر الفرس على مصر وبلاد اليونان.
٢ - حاجة المدن اليونانية للقمح المصرى.
٣ - حاجة مصر للجنود المرتزقة من الإغريق لصد ومقاومة الفرس.
٤ - احتياج اليونان بعد النهضة الثقافية الكبرى في القرن الخامس قبل الميلاد لورق البردي المصري.
معابر التواصل الحضاري مع قارة أوربا تتمثل فيما يلي :
جزيرة كريت : والتي غزاها الإغريق وأخذوا الكثير من مظاهر حضارتها المتأثرة بالحضارة المصرية.
بلاد فينيقيا : حيث نقل الفينيقييون الحضارة المصرية للبلاد المجاورة ومنها بلاد الإغريق.
بلاد اليونان : والتي انتقلت من خلالها الحضارة المصرية إلى بلاد الرومان.
وسنتعرف على ملامح التواصل الحضاري بين مصر القديمة وحضارات بلاد اليونان والرومان.
أولاً - مصر والتواصل الحضاري مع بلاد اليونان
ترجع علاقة مصر ببلاد اليونان إلى عصر الدولة القديمة في مصر، فقد عثر بجزيرة كريت علی ٦٠٠٠ قطعة أثرية مصرية، كما وجد على جدران مقبرة وزير الملك تحتمس الثالث أحد ملوك الدولة الحديثة وفد من الكریتیین يقدم الجزية للملك.
نماذج من التواصل الحضاري بين مصر وبلاد اليونان :
١ - التواصل الاقتصادي
جاء بعض اليونانيين إلى مصر في العصر المتأخر واشتغلوا بالتجارة وأسسوا مدينة خاصة بهم علی الطراز الإغریقی سمیت "نقراطیس" بمحافظة المنيا، كما وفد إليها الفنانون والصناع اليونانييون؛ حيث ارتقت صناعة الزجاج والأواني الفخارية بها، كما تمكن البطالمة في مصر من إنشاء منارة الإسكندرية لإرشاد السفن، وكذلك إدخال وسائل ری حديثة مثل الساقية وغيرها.
٢ - التواصل السياسي
توطدت العلاقات بين مصر واليونان في فترة حكم الأسرة السادسة والعشرين، فقد تم استخدام اليونانيين كمرتزقة في الجيش المصري، وعندما تمكن الإسكندر الأكبر المقدونی من الاستيلاء على مصر عام ۳۳۲ قبل الميلاد، عمل على مزج الحضارة المصرية القديمة بالحضارة اليونانية فيما عرف باسم الحضارة الهلينستية.
٣ - التواصل الديني والاجتماعي
تأثر الإغريق بالديانة المصرية القديمة، وأصبحت عقيدة الإلهة إيزيس عبادة شائعة في بلاد الإغريق، ولذلك عندما جاء الإسكندر الأكبر المقدوني حرص على احترام العادات والتقاليد المصرية، وقدم القرابين للمعبودات المصرية وحمل الألقاب الفرعونية، واتخذ شعار قرني الكبش المقدس للإله آمون رمزاً له، ومن بعده سار البطالمة على نفس النهج فأنشأوا المعابد على الطراز الفرعونی، مثل معبد إدفو لعبادة الإله حورس، ومعبد دندرة لعبادة الإلهة حتحور، ومعابد فيلة لعبادة الإلهة إيزيس، كما تمكن بطلميوس الأول من توحید دیانتي اليونان ومصر في عبادة واحدة باسم الإله سرابیس الذي أنشئ له معبد السرابيوم بالإسكندرية، كذلك صور الملك «بطلميوس الثالث» مع زوجته على واجهة معبد الكرنك بالأقصر بالزي التقليدي المصري وبالأسلوب الفنى الفرعوني، وكذلك فعل البطالمة الآخرون.
٤ - التواصل الثقافي
حرص الكثيرون من مفكري الإغريق وعلمائهم على زيارة مصر والالتقاء بالكهنة العلماء المصريين والاطلاع على مكتبات المعابد المصرية لينقلوا العلوم المصرية إلى بلاد اليونان، وكانت البيئة العلمية الراقية التي توفرت في الإسكندرية حيث تأسست دار العلم والمكتبة الكبرى برعاية البطالمة، سبباً في الارتقاء بالعلوم والفكر الفلسفي والإبداعي الأدبي الذي شارك فيه علماء الإسكندرية على اختلاف أصولهم.
مكتبة الإسكندرية
من الجدير بالذكر أن مكتبة الإسكندرية احتوت على نصف مليون كتاب في جميع فنون العلم والمعرفة باللغات المختلفة: اليونانية والفينيقية والهندية، ولكنها تعرضت للتدمير عام ٤٨ قبل الميلاد، ثم دمرت نهائياً عام ٣٩١ للميلاد؛ لذا تعاونت منظمة اليونسكو ودول العالم في مشروع إعادة بناء مكتبة الإسكندرية تقديراً لدورها في نشر العلم والمعرفة في العصور القديمة.
٥ - التواصل الفني
تأثر الفن اليوناني بالفن المصري القديم خاصة في مجال العمارة، وهو ما ظهر في قصر الملك مینوس ومعبد البارثنون بأثينا وما به من أعمدة دورية ذات أصول مصرية، حيث كان الفن المصري بمثابة القاعدة التي قام عليها الفن اليوناني.
ثانياً - مصر والتواصل الحضاري مع بلاد الرومان
بدأت العلاقة بين مصر وبلاد الرومان من خلال التبادل
التجاري فيما بينهما، ثم بدأ التدخل السياسي للرومان عندما ضعفت دولة البطالمة في مصر، وبدأت روما تفرض سيطرتها على العالم القديم، حتى نجحت في السيطرة على مصر عام ۳۰ قبل الميلاد.
نماذج من التواصل الحضاري بين مصر القديمة وبلاد الرومان :
١ - التواصل الاقتصادي
تحدث الإمبراطور هادريان عن مدينة الإسكندرية قائلاً :
《 إنها مدينة غنية تتمتع بالثراء والرخاء، لا يوجد بها عاطل عن العمل، فهناك من يعمل في صناعة الزجاج وآخرون يعملون في صناعة البردي، وكثيرون يعملون إما في صناعة النسيج أو في أي حرفة أو صناعة أخرى حتى أصحاب العاهات من العجزة والعميان كان لكل عمله، وحتى الذين فقدوا أيديهم لا يقضون حياتهم عاطلين 》
تواصل حضاري
من الجدير بالذكر أن الرومان قاموا بتعديل تقويمهم القديم الذي قسم السنة إلى عشرة أشهر ليصبح کالتقويم المصري الذي يتكون من اثنتي عشر شهراً لأنه التقويم الأهم الذي يعتمد على السنة الشمسية التي تتكون من ٣٦٥ يوماً وربع اليوم.
٢ - التواصل الديني والاجتماعي
تأثر الرومان بالإغريق والذين كانوا بدورهم متأثرين بالحضارة المصرية القديمة، فقد أخذ الرومان عن الإغريق الكثير من معتقداتهم الدينية، وانتقلت إلى روما عبادة بعض المعبودات المصرية القديمة مثل «سرابیس» المعبود المصري الإغريقي، وإيزيس المعبودة المصرية العالمية، وأقاموا لهما المعابد الدينية، وكذلك قامت عبادات لبعض الأباطرة الرومان نتيجة تأثرهم بظاهرة تقديس الفراعنة في مصر القديمة.
كما أقام الإمبراطور الروماني هادریان «١١٦ : ١٣٨م» معبداً للإله السكندري «سرابیس» المعبود المصرى الإغريقي، كما زار مصر وقام برحلة إلى الصعيد عن طريق نهر النيل ووصل إلى الأقصر، وأثناء عودته غرق صديقه "أنطينوس" في النيل فحزن عليه الإمبراطور وأمر بتشييد مدينة في مكان الحادث تحمل اسمه، وهي مدينة «أنطينوبولیس» وهي مدينة الشيخ عبادة الآن تجاه ملوى بمحافظة المنيا.
٣ - التواصل الفني
أقام الرومان بالإسكندرية العديد من المنشآت المعمارية، والتي تأثرت بالحضارة الإغريقية والمصرية مثل : البوابات والمسارح والمعابد، كما تأثر النحت الروماني بالنحت المصري.
وهكذا كانت الحضارة المصرية القديمة رمزاً للتواصل الحضاري مع حضارات العالم القديم، وأحد معالم التبادل الثقافي والفني والديني مع شعوبه من خلال عمليات الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر.