التواصل الحضاري بين مصر القديمة وإفريقيا
مقدمة
ارتبطت مصر بجيرانها منذ فجر التاريخ، ولم تعش في عزلة عن حضارات العالم القديم، بل كانت بمثابة همزة الوصل بين تلك الحضارات وأخذت تؤثر وتتأثر بها، وارتبطت معها بعلاقات سياسية وثقافية واقتصادية ودينية وغيرها، فكان من ثمار هذا التواصل قیام حضارات أخرى أسهمت في بناء الحضارة الإنسانية.
وكانت مصر كشعب وحضارة لها الأثر الكبير في توجه إفريقيا الحضاري؛ حيث مهدوا الأرض الإفريقية بحرکات کشوفاتهم البحرية والبرية لسواحل شرق إفريقيا وحتى داخل القارة في بلاد الحبشة وبلاد بونت (الصومال حالياً).
معابر التواصل الحضارى نحو قارة إفريقيا تتمثل فيما يلي :
١ - نهر النيل : يبدأ من مصر السفلى ماراً بمدينة أسوان، والتي تعد البوابة الشمالية لإفريقيا ويستمر حتى الجندل الثالث والرابع في شمال السودان.
٢ - درب الأربعين : يبدأ من أسيوط ويمر بالواحات الخارجة ويمتد حتی کردفان ودارفور.
٣ - ساحل البحر الأحمر : يبدأ من ودیان الصحراء الشرقية في مصر ماراً بساحل البحر الأحمر حتى بلاد بونت والحبشة.
ومن الجدير بالذكر أن قارة إفريقيا تعد من أغنى قارات العالم؛ لما تمتلكه من موارد وثروات طبيعية واقتصادية هائلة ومتنوعة؛ تتمثل في التربة الخصبة والمياه العذبة والثروة الحيوانية والنباتية والسمكية، إضافة إلى مصادر الطاقة والمعادن التي تخرج من باطنها حيث تحتوي على أكبر مناجم الماس والذهب، مما جعلها عرضة للغزاة المحتلين الذين نهبوا خيراتها وتركوها تعاني الجهل والمرض والصراعات والديون.
أولاً - التواصل الحضاري بين مصر وشمال السودان
بدأ اهتمام المصريين بمنطقة النوبة، والتي كانت جزءاً من الحدود الجنوبية المصرية منذ أقدم العصور ولاتزال؛ وذلك بغرض تأمین حدود مصر الجنوبية من غارات البدو
المتلاحقة، وإقامة علاقات تجارية مع شعوب المنطقة.
ملامح التواصل الحضاري بين مصر وشمال السودان
١ - التواصل السياسي والعسكري
قام المصريون القدماء بالعديد من الحملات العسكرية إلى شمال السودان؛ لتأمين الحدود وأنشأوا العديد من القلاع والحصون الحربية، كذلك قام الملك سنوسرت الأول بتقسيم النوبة إلى أقاليم إدارية شبيه بالتقسيم المصرى بالإضافة إلى تعیین حاکم عليها، وكان هناك أفراد من النوبة يعملون بالجيش المصري في مملكة طيبة.
وقد أطلق المصريون القدماء على سكان منطقة النوبة اسم "تاستیو" وسموا أرضهم " تاستی" بمعنى أرض أهل الأقواس؛ لأنهم امتازوا بمهارة استعمالهم للأقواس والسهام واشتركوا كجنود في الجيش لمحاربة الأعداء والدفاع عن البلاد في حالة تعرضها للخطر.
٢ - التواصل الاقتصادي
كانت مصر تصدر إلى شمال السودان المصنوعات النحاسية والأسلحة والمنسوجات، وتستورد البخور والعطور ومواد التحنيط والكروم والزيوت وغيرها، وكانت أسوان إحدى مراكز التبادل التجاري في المنطقة، كما تأثرت المنتجات النوبية ببعض الصناعات المصرية مثل صناعة الأقمشة واستعمال الخرز في زخرفة الملابس وغيرها.
كما قام ملوك الأسرة السادسة بإرسال بعثات تجارية يرأسها أحد كبار الموظفين، ومن أشهر رؤساء البعثات في هذا العهد «حرخوف» الذي يعد أعظم رحالة في الدولة القديمة.
٣ - التواصل الثقافي والفني
تشبعت النوبة وشمال السودان بعناصر مميزة للحضارة المصرية القديمة، مثل بناء المقابر على شكل أهرامات صغيرة، وطريقة الدفن ورسوم المقابر، وانتشار عادة التحلي بالأقراط المستديرة بالنسبة للرجال، كما أدخل الفنان المصري تعديلات على الفخار النوبي الأحمر وأنتج منه أشكالاً دقيقة للغاية، كما أسهم فنانو مصر في بناء وتجميل معبد کوة، وكذلك معبد آمون الشهير بجبل البركل بالنوبة.
٤ - التواصل الاجتماعي والدينی
تغلغلت العناصر النوبية في الحياة المصرية، كما أصبحت هناك بعض الأميرات من البيت المالك في طيبة من أصل نوبي، وتأثرت منطقة النوبة بالأفكار المصرية عن الحياة والموت والبعث والخلود، کما انتشرت المعبودات المصرية مثل «آمون» و«حتحور» في منطقة النوبة وشمال السودان، كما اعترف المصريون ببعض الآلهة النوبية وأدخلوها ضمن معبوداتهم التي شيدوا لها المعابد مثل «ددون» الذي عبد في سمنة و«خنوم» الذى عبد في قمنة، كذلك عبد سنوسرت الثالث كإله للنوبة في العهود التالية نظراً لما قام به من جهود عظيمة فيها.
كما ظهرت بعض الأسماء المصرية بين أصحاب البيت المالك في نبتة، وكان انتشار الكهنة المصريين في معابد النوبة وحتى منطقة الشلال الرابع أثر كبير في نشر الثقافة والعقائد المصرية.
ومن الجدير بالذكر أن منطقة النوبة وشمال السودان ظهرت فيها حضارة كوش، وكانت دولة موحدة مستقلة، شيدت بها العديد من المعابد على غرار المعابد المصرية، وانتشرت بها المعبودات المصرية، حتی أصبحت نبته عاصمتها توأماً لمدينة طيبة، ومقراً ثانياً لمعبود الدولة الرسمی «آمون رع».
ثانياً - التواصل الحضاري بين مصر ووسط إفريقيا وبلاد بونت ( الصومال حالياً )
عرفت خيرات إفريقيا طريقها إلى العالم الخارجي عن طريق مصر، وخلال ذلك تغلغلت الحضارة المصرية القديمة إلى وسط إفريقيا وغيرها، وقد ارتبطت مصر بعلاقات مع وسط إفريقيا وبلاد بونت.
في عصر الدولة القديمة
يشير حجر بالرمو أن الملك «ساحورع» أرسل حملة إلى بلاد بونت، وقد عادت ومعها مقادير كبيرة من البخور والذهب، كذلك شهدت الأسرة السادسة رحلات متعددة إلى بلاد بونت.
في عصر الدولة الوسطى
نشطت البعثات والرحلات التجارية إلى تلك المناطق، فقد استفاد الملك «أمنمحات الثاني» من الأمن والهدوء نتيجة نشاط والده «سنوسرت الأول» فأرسل حملة إلى بلاد بونت، وقام بتجديد المركز التجاري الذي أقيم في كرما في نهاية عصر الدولة القديمة.
في عصر الدولة الحديثة
بلغت العلاقات المصرية مع القارة الإفريقية ذروتها، عندما قامت الملكة «حتشبسوت» في حوالي عام ١٤٩٥ ق.م برحلة بحرية كبرى إلى بلاد بونت، والتي يظهر تصویرها على جدران معبدها في الدير البحري، حيث تظهر السفن محملة بأخشاب الأبنوس والعاج وأشجار البخور.
كما كان هناك تشابه كبير بين الآلات الموسيقية المصرية والآلات الموسيقية في إفريقيا، وضم مجمع الآلهة المصرية القديمة آلهة إفريقية بحتة مثل ددون أمير البخور، وبذلك كانت مصر هي المصدر الروحي والاقتصادي لإفريقيا في كل العصور القديمة.
رحلة نكاو حول إفريقيا
ازداد النشاط التجاري المصري في إفريقيا في عهد الأسرة السادسة والعشرين، وكان الفرعون «نكاو الثاني» أبرز ملوكها في تنشيط تجارة مصر الخارجية عبر الطرق البحرية والبرية، وقام بأول محاولة في تاريخ الإنسانية للدوران حول إفريقيا حوالي عام ٦٠٠ ق.م مستعيناً بالبحارة الفينيقيين، وقد بدأت من خليج السويس (الأوديسا البحرية) وعادت السفن عن طريق مضيق جبل طارق واستغرقت الرحلة حوالي ثلاث سنوات حول الشاطئ الإفريقي حتى عادوا من بوغاز جبل طارق إلى مصر محملين بجميع خيرات إفريقيا مما حصلوا عليه في الموانئ التي مروا بها.